السبت، 19 أكتوبر 2013


ابتا؛ البلد والاهــل
(6)
مصطفى دارنتود

ابـــتا
    يخترق قرية قرنتي(1) الطريق العام الذي يصل بين ارقو ومشرع مدينة دنقلا ويتفرع من هذا الطريق في طرف القرية الشمالي طريق آخر يتجه شرقاً إلى قرية أبتا(2) والتي تبعد مسافة يمكن قطعها في حوالي نصف ساعة سيراًعلى الأقدام. إذا سرت من شرفنكتي شرقاً نحو أبتا سوف تمر بردم اثري لم ينقب فيه حتى الآن لذا لا احد يعرف شيئاً عن الآثار التي يضمها الردم أو العهد الذي تنتمي إليه. بعد الردم الأثري يخترق الطريق حوضاً خصباً تنتشر فيه حواشات زراعية، وبعد الحوض يتصعـد الطريق تلاً رملياً تغطيه الحلفاء وتنتشر فيه الشجيرات الشوكية وشجيرات العشر، هذا التل أعتـاد الناس استخراج الجردقه منه. والجردقه هي نوع من العطرون الترابي مفيد جداً (للحيرقان) ويساعد على الهضم، وطريقة تناوله هي إذابته في الماء ثم تصفية  المزيج وشربه وكان والدي رحمه الله يقول إن دخول الجردقة في البطن مثل دخول مصباح مضئ في غرفة مظلمة.
    إلى الجنوب من التل تقوم مترة سالم دفع الله المهجورة والتي تبعث بنخيلها الداكن الخضـرة الرهبة في النفس. يعبر الطريق حوضاً زراعياً آخر ينتهي عند تل رملي إن صعدت إلى قمته أشرفت على قرية أبتا وإنبسطت أمامك مترات عبدون ساتي وعبده عثمان وعبد القادر عبد الله ومحمد احمد مختار. كانت مترة الحاج عبد القادر عبد الله محمد أبان حياته عبارة عـن بستان وارف الظلال تكثر فيه أشجـار المانقو والبرتقال والقريب فـروت؛ ولـم يكن بستانه يخـلو من الأعشاب الطبية. أذكر إن أستاذنا الأديب الشاعر والفنان الانسان إسماعيل خورشيد، رحمه الله، جلس يوماً في ظل كرقة قرب مترة الحاج عبد القادر وكان يتمدد بقربه جدول الساقية الضكر المغطى بنبات النعنان الذي عطر الجو برائحته الذكية فنظر حوله وقال من أعجب لمن يعيش هنا ويرى هذه الطبيعة الساحرة ولا يصبح شاعراً.
     إن هبطت التل تمر بمقابر قديمهً وقد دلت الهياكل التي أخرجت إثناء حفر هذه المقابر لعمل مشروع إن أصحابها كانوا طوال القامة وقد قاس بعضهم عظمة ساق احد الهياكل فكانت بطول عظمتي ساقه وفخذه معاً مما يؤكد ما قاله المؤرخون من أن النوبة كانوا طوال القامة. ولا يعرف لأي عهد تعود هذه المقابر. أذكر أني كنت أمر يوماً قرب هذه المقابر فلاقتني إمرأة لم ارها من قبل ولا من بعد؛ كانت متلثمة بطرحتها وكان مغبرة  اليدين مغبرة ما ظهر من وجهها وكانت تحمل في يدها جركانات بلاستك مهترئة؛ وبعد أن صافحتني قالت لي بدون مقدمات: "قالوا النصارى دافنين معاهم دهب؛ هم إن عندهم دهب كان رقدوا رقدتهم دي!؟" سألتها: "انتي منو؟"؛ فلم ترد علي وواصلت طريقها شمالاً إلى حيث لا أدري. هذه الآثار الموجودة في قرنتي والمقابر والمترات القديمة المبنية بالطوب الأحمر الكبير الحجم والتي تعرف بالآبار الكفرية الموجودة في أبتا تدل على أن منطقة شرفنكتي وأبتا كانتا مركزاً حضارياً هاماً في عصر كرمه أو عـصر مملكة المقره. الناس يعتقدون إن مياه الأمطار تجعل الخرز يفـــور من الأرض عند المواقع الأثرية في أبتا وشرفنكتي لذا كانوا إن هطل المطر يبحثون عن الخرز والسكسك فيها. بعـد المقابر الأثرية يمـر بحوض زراعي به حواشات تابعة لمشروع أبتا التعاوني. ثم يخترق الطريق أراضي المترات الحكر ثم أراضي السواقي الملك لينتهي عــند خور أرقو الذي يتفرع من النيل عند قرية الترعة الواقعة جنوب إيماني ويتجه شمالاً مخترقاً أراضي إيماني والسير وتبو ودار العوضة والسرارية وأبتا وأبو حجار ليصب في النيل شمال مدينة ارقو؛ وكان هذا الخور فرع من نهر النيل لذا كان يقال لارقو جزيرة ارقو، وكان الوالد الحاج طه علي مريم يقف بمركبه ذي الكنتين(3) على شاطئ الخور اسفل بيوت ابتا. اما الآن فإن هذا الخور يمتلئ بالمياه في زمن الفيضان فقط فتسقى منه المزارع الواقعة على ضفتيه كما انه يجدد مخزون المياه الجوفية التي تروي أشجار النخيل وترفـع مـن منسوب مياه المترات.
اما ترعة السليم فهي تتفرع عن النيل عند خشم الترعة - (الكاسورة) - وتمتد بطول اراضي الأحواض من حوض واحد وحتى حوض ستة عند كرمه وتغمرها بمياه النيل المشبعة بالطمي فتجدد خصوبتها عن هذه الترعة يقول الأستاذ أحمد مصطفى الملك أنها حفرت عام 1936ميلادية وأن المقاول الذي أشرف على حفرها هو جدنا حسن أحمد حامد الرديسي والذي سمي (مشرع الرديسي) بين آرتيقاشا والبرقيق على إسمه.
ترقد أبتا على الضفة الغربية لخور ارقو إلى الجنوب الشرقي من مدينة ارقو المركز ومعظم أهلها من المحس وتنتشر بيوت أبتا على أراضي المترات والسواقي الملك، ففي أقصى جنوب أبتا نجد مترة البيتنجي ثم ارض الحسن بابكر والختراب والى الشمال نجد أراضي الحواشورنجي والارابنجي والنورنجي والحداديد وفي شمال أبتا نجد أراضي الختراب والحقاقير والشنبه والسراجاب.
ينتمي سكان قرنتي وأبتا إلي عدة اسر منها الدارنجي وكبيرهم امباب شيخ علي والمسنجي وكبيرهم إبراهيم محمد المحسي والمسيكنجي وجدتهم مسيكة والسالمية وكبيرهم خيري سالمية والختراب وكبيرهم خضر والحقاقير وكبيرهم حقار والارابنجي وجدتهم ارابا والحواشورنجي وجدتهم حواء والحداديد وقد تمازجت هذه الأسر بالمصاهرة حتى أصبحت كاسرة واحدة.
ويتحدث الاهل في ابتا اللغة المحسية، يتحدث الاهل في قرنتي اللغة الدنقلاوية (الاشكر)؛ وتجد الكثير من القريتين يتحدث اللغتين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ   
معاني الكلمات: 
1-               قرنتي: أرجح أن يكون الأصل النوبي للإسم هو (قور : ن : تي)؛ كلمة (قور) تعني ارض والمقطع (ن) يستعمل مع الاسم المضاف إليه وكلمة (تي) تعني بقرة والاسم (قور: ن: تي) يعني بقرة الأرض وربما سموها هكذا لخصوبة أرضها  كما في إسم جزيرة (تو:تي) والذي يعني البقرة الجوانية.
2-               قد يكون أصل أبتا هو (آبا :تا) كلمة (آبا) تعني أب وكلمة (تا) قد تعني ( بلد) والاسم (ابا: تا) يعني (بلد: ابينا)؛ وقد سمعت بعض كبارنا ينطق الاسم هكذا (ابا: تي) وإن كان الامر كذلك يكون معنى الاسم هو (بقرة أبينا ).
3-               الكنتين هو (كشك) من الخشب يوضع في مقدمة المركب وبه بضائع وسلع تتضمن مواد تموينية وملابس وخلافها من إحتياجات أهالي القرى.


حـــول أنوار المســيد

الفقـراء والشيوخ
الرواة
محمد احمد مختار ومحمد صالح الحسن واحمد طه علي

سألت مولانا محمد احمد علي  شيخ ابيض، الأستاذ الأزهري والعالم الذي يصدق فيه قولنا: لا يفتى وشيخ أبيض في مدينتنا، عن الأولياء فكتب لي يقول:-
بسم الله الرحمن الرحيم
أولياء الله
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه وسلم وبعد؛ كل مؤمن تقي هو لله ولي. وهم يتفاوتون في درجاتهم بحسب تقواهم وإيمانهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب. وجوههم نور على منابر من نور. لا يخافون إذا خاف الناس. ولا يحزنون إذا حزن الناس]. ثم قرأ: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}؛ أخرجه أبو داؤود عن أبي هريرة. وهم درجات يتفاوتون في درجاتهم بحسب تقواهم وإيمانهم فكل من كان حظه من الإيمان والتقوى أوفى وأكمل كانت درجته عند الله أعلى وكانت كرامته أوفر فسادات الأولياء هم المرسلون والأنبياء ومن بعدهم المؤمنون. فأولياء الله هم الذين تولى الله هدايتهم وتولوا القيام بحق العبودية لله. وإن سَمِـعَ سمع آيات الله. وإن نطق نطق بالثناء على الله. وإن تحرك تحرك في طاعة الله. وإن إجتهد إجتهد فيما يقربه إلى الله. لا يفتر عن ذكر الله. ولا يرى بقلبه غير الله. فهذه صفة أولياء الله. وإذا كان العبد كذلك كان الله وليه وناصره ومعينه. قال الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا}. وإن ما يجريه الله على أيديهم من كرامات كتكثير القليل من الطعام. أو إبراء الأوجاع والأسقام. أو خوض البحار. أو عدم الإحتراق بالنار. وما الى ذلك من جنس المعجزات على أيدي الرسل من المعجزات المقرونة بالتحدي. والفرق بين كرامة أولياء الله الصالحين الربانيين وغيرهم من أولياء الشياطين يظهر في سلوك العبد الصالح المتمسك بشريعة الله ظاهراً وباطناً، فما يجري على يديه من خارقة للعادة هو كرامة من الله تعالى له يظهرها الله على يديه؛ وإن كانت من الشخص البعيد عن التمسك بدين الله المنغمس في المعاصي فما يظهر ويجري على يديه من خارقة للعادة هو إستدراج وخدمة لأوليائه من الشياطين له ومساعدتهم إياه. والله أعلم.
إنتهى كلام مولانا شيخ أبيض.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى قال: {من عـادى لي ولـياً فقد أذنته بالحرب وما تقـرب الي عــبدي بشئ أحـب مما أفترضـته وما يزال عبدي يتقرب الي بالنوافـل حـتى أحـبه وإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه وإن أعاذني لأعيذنه}.
يقول السيد أحمد الدرديري:
وأثبت للأولياء الكرامه   ومن نفاها فأنبذن كلامه
والولي الحقيقي يخفي ما وهبه الله من خير؛ يقول الشيخ علي وفاء:
وفي السر أسرار دقاق لطيفة  تراق دماؤنا جهرة لو بها بحنا
الإنسان منا قد يؤمن أو لا يؤمن بوجود كرامات لأولياء الله، لكن هذا لا يؤكد أو ينفي وجودها؛ بكلمات أخرى إن رأيت ظاهرة ما فعدم معرفتك سبب حدوثها لا ينفي وجودها.
والله أعلم.

فقراء وشيوخ ابتا

الفكي الحاج صالح محمد دارنتود
من حفظة القران الكريم كان يقيم بأبتا شرق فطلب منة خضر موسى الإقامة بالجزيرة وتدريس الأطفال القران الكريم في مسيد القرية ففعل ثم زوجه ابنته عشمانة خضر وقد حفظ القرآن على يديه عدد من شيوخ أبتا.
عندما أتت فكي الحاج صالح الوفاة. تجمع حوله خلق كثير فقام جالساً وقال لهم: "أنا بخير كل واحد فيكم يقوم يشوف شغلو". فتفرق الناس إلى أعمالهم وكان بين الموجودين ابن أخيه الحاج طه علي فلما أراد الخروج قال له: "ما تمشي، خليك قاعــد". ولم يمض طويل وقت حتى فارق الحياة. ويقال إن أهل قرنتي الذين كانوا حوله وطلب منهم العودة لأعمالهم عندما وصلوا قرنتي وجدوا أن خبر وفاته قد سبقهم إلى هناك. وعندما أرادوا حمل نعشه لدفنه في قرنتي أحاطت بنعشه عدة ثعابين فخاف الناس وابتعدوا عن النعش فأمرهم الشيخ عثمان محمد علي خضر ألا يخافوا ويحملوا النعش ففعلوا.
حكى لي الشيخ محمد صالح الحسن بابكر فقال إن فقير الحاج صالح اخبره انه فتح يوماً كتاباً من كتب أبيه فخرج من بين صفحاته ديكاً وأذن في وجهه فخاف فقير واقفل الكتاب. رحم الله جدنا وشيخنا الحاج صالح.
الشيخ عثمان الحاج صالح
أقام معظم حياته في بورتسودان ويقال انه كان مالكاً للجن وفيما يحكى في ذلك انه كانت له جنينة في بورتسودان يقيم فيها مزارع مع زوجته.
لاحظ فكي عثمان يوماً إن المزارع أهمل في سقي الجنينة وان الزراعة قد عطشت فلام المزارع على ذلك فرد عليه المزارع وزوجته باسلوب فظ . عند منتصف الليل جاءت جنية للمزارع وزوجته وطلبت منهما مغادرة الجنينة وإلا كسرت عنقيهما.
هرول المزارع وزوجته لفكي عثمان واخبراه بما حدث فقال لهما بأنها لن تتعرض لهما مرة أخرى وطلب منهما العودة للجنينة لكنهما رفضا العودة.
حكى احمد طه علي بأنه كان مع الفكي عثمان في منزله ببورتسودان فاستأذنه الفكي عثمان وغادر المنزل مع زوجته لزيارة انسبائه وبقي احمد وحده جالساً على عنقريب في حوش المنزل فأحس بحركة خلفه ولما التفت راى صبياً صغيراً يرتدي لباساً طويلاً ويضع عمامة فوق رأسه ولاشيء غيرهما، فخاف وغادر المنزل وفي الشارع وجد احد جيران الفكي عثمان جالساً على مصلاته فاخبره بما راى، فابتسم الجار وقال له: "ما تخاف ديل بتاعين عمك"؛ ولما علم الفكي عثمان بما حدث قال لاحمد: "ديل عارفنك مابيعملوا ليك شيء".
وحكى محمد احمد مختار إن لصاً دخل ليلاً منزل الفكي عثمان وسرق منه خروفاً وأحس ضيف تصادف وجوده بالمنزل باللص فنبه فكي عثمان فقال له: "خليهو". في الصباح عندما خرج الضيف مع الفكي عثمان وجد اللص مسمراً أمام الباب وهو يمسك بالخروف. ذهب الفكي عثمان وبلغ الشرطة وعندما جاءت الشرطة للمنزل وجدت اللص ما يزال أمام المنزل ممسكاً بالخروف فإعتقلته.
الشيخ محمد نور بدرى محمد نور
حكى محمد احمد مختار عنه الشيخ محمد نور فقال إنه درس في خلوة الحاج صالح محمد دارنتود في أبتا ثم سافر إلى مصر ودرس في الأزهر الشريف وأصبح له ركن يدرس فيه. وكان يحضر للسودان دائماً ليقضي فتره في البلد ثم يعـود ليواصل تدريسه في الأزهر.
والشيخ محمد نور هو الذي بنى مسجـد أبتا العتيق وكان يؤم فيه الناس لصلاة الجمعة وكان الناس يأتون من ارقو المركز للصلاة خلفه.
تم بناء مسجد أبتا بواسطة "الفزع" فكان يعمل في كل يوم أصحاب احدي السواقي؛ وكان البناءون يتلون القران  وهـم "يجرون السريقة". ولعمل سقف المسجد احضر الشيخ انبوق النخـل (الفلق) من المحس ويقول محمد احمد مختار انه وجد في حبراب نخلة تميل ميلاً شديداً نحو النيل فقال له الناس أنهم إن حاولوا قطعها سقطت في النيل، فطلب منهم قطعها فقطعوها وكانوا كلما ضربوا جزع النخلة بالفاس ارتفعت النخلة بعيداًعن النيل ومالت نحو الشاطئ حتى سقطت على الأرض بعيداً عن النيل.
بنى الشيخ محمد نور بدري غاراً من الجالوص خلف المسجد وقد اراني عبده عثمان الغار وهو عبارة عن غرفة صغيرة سميكة الجدار وهي ما تزال موجودة حتى الآن. كان الشيح محمد نور يعتكف في الغار طوال شهر رمضان منقطعاً عن الناس لا يرى أحداً ولا يراه أحد وكانت أخته آمنة بدري تحمل له ماء الوضــوء وطعام الإفطار وتضعها أمام مدخل الغار. وكان إفطاره يتكون من البلح والبليلة وقلية قمح وحرف كسرة. وصباح يوم العيد يقف الناس أمام مدخل الغار ويخبرونه بانقضاء شــهر رمضان وان اليوم أول أيام العيد فيخرج من الغار ضعيفاً هزيلاً يترنح في سيره فيسنده رجلان ويقودانه إلى المسجد فيؤم الناس في الصلاة وبعد انقضاء الصلاة يسنده رجلان ليصعد المنبر ويلقي خطبتي العيد.
كان الناس يقدرون الشيخ محمد نور لعلمه وورعه ومما يحكى في ذلك انه عندما ماتت فتاة من الإشراف الأدارسه قدمه الأشراف للصلاة عليها فقدم الشيخ محمد نور رجلاً آخر للصلاة فقال الرجل: "ألا تكفي نار الآخرة فتريد إن تحرقني بنار الدنيا" ويبدو أن الرجل ذكر نار الآخرة لأنه لا يجوز شرعاً بأن يؤم رجل الناس وفيهم من هو اعلم منه، وقصد بنار الدنيا إن الناس سيسلقونه بألسنتهم إن هو تجرأ وتقدم على من هو أعلم منه. ومما يحكى في ذلك إن الشيخ  محمد نور إعتاد إن جاء من مصر إن يبيت في منزل خاله محمد علي خضر عدة أيام قبل إن ينتقل إلى بيته. ويقال إن شيخاً   نزل ضيفاً على محمد علي ففرش له العنقريب الذي اعتاد إن ينام عليه الشيخ محمد نور، فلما علم الضيف بذلك رفض أن ينام على ذلك العنقريب، فلما سمع الشيخ محمد نور بالقصة سمح له بالرقاد على العنقريب ثم علق قائلاً: "لا يعرف الفضل ألا صاحب الفضل".
كان يؤم الناس للصلاة فان سافر إلى  مصر كلف الشيخ عثمان محمد علي خضر بإمامة الناس. وقد أم الشيخ عثمان الناس في جامع أبتا العتيق لمدة 60 عاما.
مات الشيخ محمد نور رحمه الله بالقاهرة ودفن بمقبرة الإمام الشافعي.
الشيخ سيد احمد محمد نور بلال
حدثني فتحي محمد فقير عن الشيخ سيد احمد محمد نور فقال إنه من حفظة القرآن الكريم وإنه في زمن المهدية ذهب إلي أم درمان وأنشأ خلوة في ميدان الشهداء لتدريس القرآن الكريم لأبناء الأنصار. ويقال أن سلاطين باشا بعد أن أدعى الإسلام أدخل خلوته ليحفظ القرآن. مـات رحـمه الله ودفن في مقابر البكري بأم درمان.
الشيخ عبد الله خضر
حفظ القرآن في خلوة الشيخ حاج صالح محمد دارنتود ثم سافر إلى مصر حيث أكمل تعليمه في الأزهر واستقر هناك وبعد إلحاح من أهله حضر للبلد وتزوج من حرم ابنة شيخه الحاج صالح محمد دارنتود .
كان عالماً فقيهاً وكان يتلو القرآن الكريم وينشد القصائد النبوية بصوت جميل. حكى محمد أحمد مختار أن الشبخ عثمان محمد علي خضر قال له إن السيد محمد الحسن الإدريسي قدمه للصلاة في جامع دنقلا العتيق فلم يرض ذلك خلفاء السيد فقالوا: "كلنا موجودون ويقدم للصلاة شاب في عمر أبنائنا؟". فرد عليهم السيد الإدريسي بقوله: "قدمته للصلاة لأنه يقرأ الفاتحة كما نزلت من السماء".
يحكى محمد احمد مختار أن بدري سليمان علي وعباس زبير سليمان علي وعبد اللطيف مالك جاءوا للسلام على حاج صالح فقال لهم: "هل زرتم جدكم عبد الله خضر؟". فقالوا: "لا". فسأل حاج صالح بدري: "عندما أراد أهل دلقو إبعادك عن الشياخة ماذا رأيت في المنام؟". فقال بدري: "رأيت تورين دفعوا الناس بقرونهم بعيداً عني". فقال له حاج صالح: "التورين ديل منو؟" قال له بدري:" واحد كان أنت والثاني لم أره من قبل". فقال الحاج صالح: "الثاني كان جدك عبد الله خضر إذهب وسلم عليه وإقرأ عليه الفاتحة ثم سلم بعد ذلك على الناس".
ويحكى عنه محمد احمد مختار إنه ذهب إلى مقاصر وأقام ليلة ذكر انشد فيها قصائد نبوية فذهل الحاضرون بروعة قصائده وحلاوة صوته وزغرد الشيخ هارون فاندهش الناس لذلك وزغردوا معه ولما فرغ الشيخ عبد الله من إنشاده سأل الحاضرون الشيخ هارون عن السبب الذي جعله يزغرد فقال : "فشان الرسول ............." ثم امسك عن إكمال ما كان ينوي قوله وغير موضوع الحديث.
الخليفة الحاج طــه علي محمد دارنتود
عمل الحاج طه ريساً لوابور"وتر الليل" وهو الوابور الخاص بمفتش المديرية الشمالية الانجليزي وعمل أخوه محمد علي (أبويا) ريساً لوابور الركاب "جاكسون باشا" قال لي المرحوم ساتي صالح محمد الذي كان يعمل في "وتر الليل" وهو صبي صغير إن العاملين في الباخرة إذا رفعوا أمرًا للمفتش الانجليزي كان يسألهم قبل إن يبدي رأيه: "ماذا قال ريس    طـه؟". ويحكي ساتي انه ذهب مرة لقضاء أمر يخص الوابور فلما عاد وجد إن المفتش قد أعطى البحارة بقشيشاً فوزعـوه بينهم دون أن يتركوا له شيئاً فاشتكي لريس طه الذي غضب وشجعه لكي يذهب للمفتش ويقص له ما حدث ففعل ساتي ذلك فكافأه المفتش. كان الناس في ذلك الزمن يغـنون للبواخر النيلية من ذلك ما يقال للباخرة (جاكسون باشا):
جاكسون باشا أبو رتاين    صفارتو تحسس النايم
وكان يقال للباخرة "وتر الليل": (الموجو كركاب). قال الحاج محمد عبد الله سالم إن الناس  كانوا يغنون للريس طه بأنه (الموجو كركاب).
في العشرينات من القرن الماضي أدى الحاج طه مع صديقه الريس سعيد معـــروف فريضة الحج وبينما هما في قافلة في طريقهم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وفي ليلة حالكة السواد فصل احـد أدلاء القافلة ناقة امرأة من الحجاج كانت تتزين بكثير من الذهب فأنطلق الحاج طه خلف اللص وعندما أحس به اللص ترك الناقة وفر متستراً بالظلام. أخذ الحاج طه مقود الناقة وقفل عائداً بها وبسبب الظلام لم يستطيع إن يرى القافلة فصار يصيح باسم صديقه سعيد معروف وسعيد يصيح باسمه ليدله على مكان القافلة حتى لحق بها.
بعد تقاعده عن العمل اشترى الحاج طه مركباً ووضع عليه كنتينا (كشك بقالة) وكان يجوب بكنتينه النهر في موسم الحصاد يستبدل مع أهالي الجزر والقرى الواقعة على ضفاف النيل ما عنده من بضائع بما عندهم من محاصيل.
إبان فترة الحرب العالمية الثانية وبسبب شح المواد التموينية صارت الحكومة توزع المواد حسب كشوفات تضم أسماء الأسر وعدد أفرادها وعرف هذا النظام باسم "التموين". في تلك الأيام عرف المجتمع ظاهرة جديدة هي "البرشوت"، فقد كان بعض التجار ينقصون من المواد التموينية المخصصة لكل أسرة ثم يقومون ببيعها في السوق السوداء بأسعار عالية محققين بذلك مكاسب طائلة. وكان الناس يضيفون لكل تاجر عمل بالبرشوت لقب "برشوت" والي الآن فهناك بعض التجار يعرفون بهذا اللقب ويقال للواحد منهم (فلان برشوت)0 في تلك الأيام كلف الحاج طه بتوزيع التموين على الجزر والقرى النيلية الواقعة بين منطقة دنقلا وأرجو فكان يعطي كل أسرة حقها كاملاً وان حدث عجز في المواد، ودائماً ما يحدث هذا، كان يشتري من جيبه من السوق السوداء لسد ذلك العجز حتى يكمل للمستحقين موادهم بسعر التموين، وهكذا بدل إن يغتني كغيره من البرشوت اخذ البرشوت بعضاً من ماله.
حكى لي عثمان علينتود رحمه الله إن الحاج طه وصل بمركبه يوماً إلى مشرع قرنتي من إحدى سفرياته وبينما كان يربط المركب في المرسى جــــاءه رجال يحملون على عنقريب رجلاً سقط عن نخلة وأصيب بكسور بليغة وطلب الرجال من الحاج طه إسعافه إلى مستشفى دنقلا فطلب من الرجال إدخاله في المركب ثم نادى رجلاً وأعطاه أغراض البيت التي كان يحملها  وطلب منه إيصالها لداره فقد قرر أن يسعف المصاب إلى دنقلا دون أن يذهب الى داره ويرى أسرته، عندها تقدم أخ المصاب وقال  للحاج طه: "قبل إن نتحرك ورينا داير كم عشان توصلنا دنقلا؟". غضب الحاج طه غضباً شديداً وقال للرجل:"أنا طلبت منك شئ؟، بعدين أنت عندك شنو عشان تديني لي يا (بلـنج)؟". لام الموجودون الرجل على ما قاله وبصعوبة استطاعوا تهدئة الحاج طه.
في عام 1330هـ الموافق 1910م أرسل السيد علي الميرغني خطاباً ممهوراً بتوقيعه للحاج طه علي عينه بموجبه خليفة له في منطقة دنقلا. وقد أوصاه في نهاية ذلك الخطاب بقوله: "هذا وأوصيه بتقوى الله تعالى في جميع الأنفاس وملازمة ذكره المطهر من الأدناس وان لا ينساني من صالح دعواته وخلواته وجلواته وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله  وصحبه بقدر عظمة ذاته آمين".
كان الحاج طه رحمه الله من حفظة القرآن الكريم وكان يرتله بصوت حلو رخيم. وقد اعتاد إن يمضي الليل جالساً وسط سريره وقد تغطى بعباءته يردد أذكاره وأوراده حتى أذان الفجر فيصلي الصبح ثم ينوم بعد ذلك. ومن أوراده انه كان يقرأ الإخلاص ثلاثة آلاف مرة كل ليلة، وكان يكثر من تلاوة آية الكرسي وقد حكى لي محمد احمد مختار أن الحاج طه إضافة للصلاة المفروضة والنوافل صلى صلاة اربعين سنة. في رمضان كان يعتكف في جامع دنقلا العتيق ويؤدي جميع الصلوات، وقد إعتاد أن يحمل في جيبه بضع تمرات كان يفطر عليها ولا يتناول سواها حتى يصلي العشاء في الجامع ثم يعود بعد ذلك للمنزل ويتناول طعامه.
كثير من الناس كانوا يأتون إليه ليرقيهم بآيات من القرآن الكريم وكان بعض الناس لا يقومون ببناء بيت أو نصب ساقية أو كتابة عقد زواج أو ختان أطفال إذا لم يأخذوا منه اليوم المناسب والساعة المناسبة. وكان فقير كودي فرح تود رحمه الله يرسل له المراسيل ليحدد له اليوم المناسب إذا عزم على أمر.
وأنا هنا، رغم تحرجي عن ذكر ما اعرفه من كراماته لأني ابنه أولاً ثم لما لاحظته من إصراره على إخفاء ما خصه الله به من نعمة ثانياً، كان لابد لي إن اسرد بعض تلك الكرامات.
أذكر انه في احدى السنوات وبعد إن فرغ موسم البلح افرغ بضائع كنتينه في صندوق في مخـزن البيت. وذات يوم فتحنا، أنا وإحدى الأخوات، ذلك الصندوق فوجـدنا فوق  تلك البضائع ورقة مكتوبة فكنا إذا أمسكنا بها ترتجف يدانا فنضحك ونلقي بها ثم نعود ونحملها فيتكرر الأمر.
من المعروف عنه انه كان يحب تناول الحليب وخاصة في عشائه ويحكى انه طلب يوماً من رجل شيئاً من الحليب فادعى الرجل إن لا حليب عنده. في
مساء ذلك اليوم جاء الرجل للحاج طه في استحياء وقال له إن بقرته أبت أن تحلب فابتسم الحاج طه وطلب منه إحضار ربطة قش وعزم عليها فأخذها الرجل وأطعمها فدرت بقرته اللبن.
أذكر إني كنت معه على المركب وكنا نرسو على شاطيء النيل في بنا غرب وكان معـنا ريس آخـر بمركبه. ظهرت في الأفق الجنوبي تباشير تلقيحة، والتلقيحة هي رياح عنيفة تهب دائماً من الجنوب الشرقي محملة بغبار كثيف لا تستطيع معه رؤية يدك إن مددتها. كان شاطئ بنا غرب مكشوفاً لهذه الرياح مما يشكل خطـراً على المركبين لذا رأى ريس طــه والريس الآخــر إن ينقلا مركبيهما للشاطيء الغربي لجزيرة بنا ليحميانهما بأشجار ذلك الشاطئ0 انطلقا شمالاً بالمركبين وقد أفردا كامل شراعيهما نحو جزيرة بنا مستعينين بالنو، والنو بفتح النون رياح جنوبية لطيفة تسبق التلقيحة دائماً. والمركبان وسط النهر قال الريس الآخر: "ريس طه شوف الجايي ده". التفت الحاج طـه إلى الجنوب وقال للرجل إن التلقيحة مازالت بعيده فأشار الرجل إلى جهة الشرق وقال: "إنا قاصد الزعبوبة دي" نظرنا إلى حيث أشار فرأينا إعصارًا يتجه مباشرة نحو المركبين اللتين كانتا تسيران جنباً إلى جنب. والمعروف إن مثل هذه الأعاصير تتسبب دائماً بإغراق المراكب وخاصة إن كانت أشرعتها مبسوطة.
مد الحاج طه سبابة يمناه نحو الإعصار وبدأ يردد شيئاً لم أكن اسمعه. توقف الإعصار على بعد أمتار من المركبين ثم استدار بزاوية قائمة واتجه جنوباً وبعد إن تجاوز المركبين استدار مرة أخرى في زاوية قائمة وواصل طريقه نحو الغرب. وفي أحد الأيام كنت معه في المركب فرأيت الإعصار نفسه فتحرجت أن أخبره وأسرعت وطويت القماش (الشراع) ورغم ذلك ضغط الإعصار على الشراع وأمال المركب حتي لامست المياه حافتها فقال الحاج: (ما شفتو).
أواخر عام 1974م أصر الحاج طـه إن يذهب إلى البلد قائلا إن يومه قد جاء وانه يريد إن يدفن بجوار والده وجدوده في قرنتي. ومات بعد أشهر قليلة وكان ذلك في 25/2/1975م ودفن حيث اراد رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته مع الشهداء والصديقين وحسن اؤلئك رفيقا، آمين.

شخصيات من ابتا

محمد علي قرجة (حاجنتود)
كان حاجنتود رجلا قوي الشخصية جهوري الصوت. يحكى انه في فزع تجهيز احدى السواقي كان بعض الرجال يحفرون في الكوديق وكان حاجنتود يربط في حبل احد القواديس فزلت قدمه من الفاشيق وهوى في الكوديق، وهو يهوي صرخ الرجال الذين كانوا يعملون في هلع من خوف عليه، فصاح بهم وهو يهوي إلى الكوديق: "مافي شيء شوف شغلكم".
كانت أبقار حاجنتود تخاف منه وترتجف إن صرخ فيها. ويحكى إن الشيخ سيد احمد عثمان كان يعمل مزارعاً مع حاجنتود وكان إن أراد اخذ الأبقار إلي الساقية ترفض الانقياد له فينادي حاجنتود الذي ما إن يصيح  بها (ها ... ها) حتى تندفع ساحبة خلفها سيد احمد. ويحكى في ذلك أيضا إن حاجنتود كلف المزارع الذي يعمل معه بحرث قطعة ارض وبعد أن بدأ التربال في حرث الأرض ركب حاجنتود حماره وذهب إلى سوق أرقو وما إن ابتعد حتى رقدت الأبقار على الأرض والمحراث معلق برقابها وفشلت كل محاولات المزارع لإيقافها لمواصلة الحرث. عندما عاد حاجنتود من السوق راى من بعيد أن المزارع لم يكمل الحرث فصاح به من بعيد مستنكراً وما إن سمعت الأبقار صوته حتى شرعت آذانها وهبت واقفة وبدأت في جـر المحراث كأنها تقول لحاجنتود أنها غير مسئولة عن تكاسل المزارع عن الحرث.
رحم الله حاجنتود وغفر له.
عبد القادر عبد الله محمد نور
كان الحاج عبد القادر رجلاً حكيماً وكانت له نوادر جمة لا تخلو في معظمها من السخرية الذكية أو الذكاء الساخر .
كان صديقاً مقرباً من السيد المعز الإدريسي. والمعز كما عرفته رجلاً من رجال الله الصالحين، ومع مكانته الدينية وتقدير الناس له كان رجلاً بسيطاً متواضعاً وكريما، وكثيراً ما كان يشاهد وهو يجلس على الأرض محتمياً من هجير الشمس بظل شجرة عشر في مقبرة أرقو وهو يشارك في تشييع شخص مات.
قال لي الحاج عبد القادر انه كان يوماً مع السيد المعز في سوق أرقو وكان السوق مكتظاً بالناس وكان السيد المعز يدخل يده في جيبه ويخرج نقوداً يدسها في يد أشخاص كانوا يمرون به. وعندما فرغ جيب السيد المعز من المال صار يقول للحاج عبد القادر "هـات"؛ فيعطيه عبد القادر من جيبه فيدس السيد المعز ما يعطيه له الحاج عبد القادر في يد الآخرين حتى فرغ جيب الحاج عبد القادر أيضا فقال للسيد المعـز: "الليلة بربط عيالي في الحلفاء". في تلك اللحظة تقدم رجل من الذين إعتادوا أن يعطوا للسيد المعز نقوداً ليوزعها بمعرفته على ذوي الحاجات، دس الرجل  مبلغاً من المال في يد السيد الـمعـز الذي دس بدوره المال في يد الحاج عبد القادر وقال له مازحاً: "خذ عشان ما تربط عيالك في الحلفاء".
لقد عرفت وسمعت الكثير من كرامات السيد المعز امتنع عت ذكرها هنا لاني سبق واستأذنت السيد الكامل رحمه الله في نشر بعض كرامات السادة الادارسة في مجلة (الظلال) فطلب مني عدم نشرها.
عندما قام الجميع بدق الارتوازي في متراتهم لسحب المياه الجوفية علق الحاج عبد القادر على ذلك بقوله:"الناس جرت المويه من تحت الأرض والأرض بقت هبرك وقربت تنهد بينا".
حكي لي الحاج عبد القادر كيف إن الجمالة (أصحاب جمال الحمل) كانوا يتعبونه عندما يريد نقل محاصيله إلى سوق أرقو. من ذلك أن جمالي طلب منه 25 قرشاً لنقل جوال إلى ارقو، فلما حاججه عبد القادر بأنه إعتاد إن يدفع له 25 قرشاً لنقل 3 جوالات لارقو؛ قال له الجمالي إن لا علاقـة لهذا المبلغ بعدد الجوالات إنما المبلغ يأخذونه فقط مقابل بركة الجمل وقيامه. غضب عبد القادر فاشترى جملاً نقل به محاصيله إلى السوق وبعد انتهاء الموسم أعطى الجمل لأحد الرعاة ليرعاه مع إبله، وفي الموسم التالي أرسل الحاج عبد القادر للراعي ليرسل له الجمل فجاء الراعي وهو يحمل جوالاً مليئاً بعظام بيضاء قال عبد القادر إنها من زمن حفروا البحر وافرغ الراعي الجوال أمام الحاج عبد القادر وقال له أن جمله قد مات وهذه عظامه.
كانت مترة الحاج عبد القادر في حياته دائمة الخضرة، وكان بالإضافة لاهتمامه بزراعة المحاصيل الموسمية والفواكه يهتم كل الاهتمام بزراعة الأعشاب الطبية والتي كان يعالج بها الكثير من الناس.
رحم الله الحاج عبد القادر وغفر له.
عبد الله عبد القادر عبد الله
أشتهر عبد الله عبد القادر بتعليقاته الساخرة مثل أبيه. وعرف عنه انه لا يتكيف من الشاي إن لـم يكن الكوب ممتلئاً تماماً، فإن قدم له شخصاً كوباً غير ممتليء قال : "إن كانت الحكومة دايراهـو  يكون ملان لي حد هنا كان قصرتو لحد هنا"، يقصد أنها كانت صغرت طول الكوب للحد الذي عليه مستوى الشاي.
يحكى انه كان يصلي العشاء في جماعة بالمسيد وبدأ الإمام في قراءة سورة {الفتح} "إذا جاء ....." ونسي باقي الآية فصـار يردد "إذا جاء" عـدة مرات لكي يسعفه احد المأمومين ببقية الآية دون جـدوى؛ عندها قال عبد الله: "وإذا ما جاء نفضل كده لغاية الصباح؟".
عندما انتشرت إنفلوونزا الطيور قلت لزوجته، عمتنا أم الحسين علي مريم رحمها الله، إن تذبح كل ما لديها من جداد وحمام، ولكي اعزز حجتي قلت إنني صرت أخاف حتى من "الزرزوره" فضحك عبد الله وصار يتندر بخوفي من العصفورة فقلت له أنا أمري هين المشكلة مشكلتك أنت لان القط  إن أكل زرزورة عندها إنفلوونزا الطيور وعض شخصاَ ما بينقل له مرض الطيور فخذ حذرك أكثر من القطط؛ والمعروف إن عبد الله لا يخاف من أي شئ خوفه من القطط .
رحم الله عبد الله وغفر له.
زينب بدري
كانت الحاجة زينب بدري تذكرني بملكات مروي "الكنداكات" ويخال لي لو إن الحاجة زينب بدري لو عاشت في ذلك العهد لكانت واحدة منهن بل لكانت أعظمهن.
زينب بدري امرأة صارمة في الحق صريحة مع نفسها ومع غيرها ولا تخاف في قول الحق لومة لائم. وكانت تربطها بوالدي الحاج طه رابطة روحية، وكانت عادة الوالد إن إبتسم أن يضع كفه إمام فمه، ولم اسمعه يضحك قط بصوت مرتفع إلا عندما يكون مع زينب بدري. انتقلت تلك الرابطة بين الحاجة زينب بدري والحاج طه إلي حفيده وسميه طه فكانت تناديه دائماً (آبا طه). والغريب إن الإبن طه  ما أن بدأ في الكلام حتى صار يقول لنا ونحن بدنقلا: "ودوني لي زينب بدري" ولم يكن ساعتها قد عرفها أو رآها أو سمع بها.
تجمع بعض الأهل في أبتا ليستقلوا بصاً ينقلهم إلى دنقلا لحضور ختان الابن طه وإخوانه؛ وكانت الحاجة زينب بدري في ذلك اليوم تحضر جلسة  في محكمة ارقو بسبب نزاع بينها وبين شخص حاول إن ينتزع منها أرضاً تخصها أصرت الحاجة زينب بدري علي الذهاب لدنقلا لحضـور المناسبة فإنتظرها الجميع حتى حضرت منتصف النهار وصعدت للبص وطلبوا منها النزول لكي تتناول طعام الإفطار فرفضت حتى لا تأخر الناس ولما أصرت احضر لها الطعام في البص.
عندما مرضت المرض الذي ماتت به، رحمها الله، أحضرت لمستشفى دنقلا حيث تقرر تحويلها للعلاج بالخرطوم وهي في مطار دنقلا بدأت تمدح الرسول عليه الصلاة والسلام وكأنها في طريقها لعرفات الله. وكانت سفرة لا أوبة منها؛ فسبحان الله أليس في الموت اقتراباً منه تعالى كما في عرفات.
زينب بشير ابراهيم ( شاربنكول )
كانت شاربنكول أو"ذات المساير" صغيرة الحجم كبيرة العقل. وهي لطيفة خفيفة الظل وكانت شديدة الخوف من "فاطمة دسا" (الحرباء). أبناء محمد علي قرجه (حاجنتود) كانوا ينادون أمهم دار السلام باسمها وكانوا ينادون زوجة أبيهم شاربنكول قائلين لها "يو".
كان لشاربنكول مع الحاج عبد القادر نوادر كثيرة، فقد كان يخوفها بفاطمة دسا ويطلب منها إن تصفق وترقص فكانت تصفق وترقص. وكانا كثيراً ما يتصارعان الحاج عبد القادر بجسده الفارع الطول وهي بجسدها النحيل القصير، وكانت "تشنكل" رجله برجلها النحيفة وهي تحاول إسقاطه.
تربت شاربنكول في كنف جدها علي محمد دارنتو وكانت مرسالته تقرب له البعيد، كما يقولون، وتقضي له حوائجه.
كانت طيبة وكريمة وقد استغـليت مرة كرمها إشفاقاً عليها. والقصة انه كانت لها ثلاث عنزات تقوم برعايتها وفي يوم أسقطتها احدى العنزات فكسرت ساقها. طـلبت منها التخلص من العنزات فرفـضت؛ فجئتها يوماً وقلت لها إن العيال يحتاجون للحليب فعرضت علي إن تهبني احدى عنزاتها لكني أصررت إن ادفع ثمنها. أخذت العنزة إلى دنقلا وبعتها بنفس الثمن الذي دفعته لها. بعد أيام عـدت  وقـلت لها إن لبن العنزة ليس كافياً للعيال وطلبت منها إن تعطيني عنزة أخرى؛ عندها أدركت ما ارمي إليه فصاحت بي "أمشي!".
كانت إن رأت تقاعساً مني في السعي وراء حق لي تردد على مسامعي حكمتها: "بالهين ضاع الحق البين".
اللهم ارحم زينب بشير، اللهم اغفر لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق